القطيف كان فيها نهر «اختم» ونهر «اساتن» و«سينوس»، واللارمن خلال زياراتي المتتابعة لواحة القطيف، آخرها في 14 مارس الحالي لحضور منتدى القطيف الثاني، كنت اتحدث عنها باعتبارها مدينة كسائر المدن في المملكة العربية السعودية او دول اخرى، لكنني وبعد الجولات التي قمت بها ومشاهداتي واللقاءات مع كبار السن اكتشفت جوانب مميزة في هذه المدينة المترامية الاطراف، ففيها من الامكنة التاريخية الاثرية، ما يعجز مداد القلم عن تسجيله، وحتى شبابها لم يسمع هذه الايام عن ذكر ما في القرى المحيطة، مثل: ييم، ام لقمان، ملحة، لفوه وخوانة او خاتة.
وهناك من الاوروبيين من زاروها متحملين مشقة السفر والاكتشاف في السنوات الماضية، فكتبوا عنها حفظا للتراث، ولكن هل هذه الزيارات جاءت لهذه الاسباب ام للتنفيس والسيطرة على خيراتها.
التاريخ يقول انه ما ان استتب الامر للعثمانيين في القطيف عام 1547 حتى بادرت بريطانيا الى غزوها، كما غزت الجزيرة العربية كلها، وان العثمانيين غير قادرين على منعهم.. لكن ماذا عن المدينة اليوم؟
لقد عشقتها منذ ان نظرتها من الجو.. فمن اعلى مكان على واحة القطيف شاهدت شريطا اخضر يمتد من الشمال الى الجنوب ، انها واحة ببساتينها وظلالها. والقطيف الى ذلك.
من اعرق المدن التاريخية، اطلق عليها القطيف لأنها تقطف منها الازهار والثمار وخاصة القطع من العنب، يذكر صاحب «معجم البلدان» ان كلمة القطيف عربية المعنى والمبنى، وان الاسم عرف منذ ان نزحت القبائل العدنانية اليها، ويمتد تاريخ هذه الواحة الى آلاف السنين، وتجد اسماء قديمة لبعض قراها لا تزال مجهولة كسيهات، والجش، والتوبي، وتاروت وسنابس.
ينابيع القطيفان المياه الجوفية موجودة ومخزونة في طبقات الصخور الجيرية القريبة من سطح الارض نوعا ما، وتظهرعلى شكل ينابيع غزيرة لتشق الصخور وتنفجر اثناء الحفر، وتظهر كالينابيع البحرية التي يستقي منها الغواصون، ومياه قريبة من سطح الارض فيبدو انها نتيجة تسرب سيول الامطار المنحدرة من اعلى نجد واوديتها بعد ان تغور في الرمال.
واحة القطيف غنية بهذه الينابيع والعيون، والفلاح القطيفي يعتمد كليا عليها من الفها الى يائها ففيها اكثر من 170 عينا، وللاسف كما قالوا لي اكثرها نضبت وجفت وردمت بيد الانسان نفسه وآخرها (عين النشات).
الزراعةالتقيت المزارع الذي قضى اكثر من 30 سنة بين النخيل والاشجار المثمرة، محمد حنفية الذي قال وهو يشير الى ان بعض النخلات اصبحت بأكثريتها خاوية ومدمرة، وبعد ان كان على ارض هذه الواحة اكثر من 800 الف نخلة تحولت الواحة الآن الى مساكن وشوارع، وانا اسأل اين عين الجارودية التي سقت؟ واين عين القشورية ماؤها حلو عذب كنا نسميه «مالي»؟ واين عين الرواي؟ كانت النخيل على مساحة تقدر بعشرات الآلاف من الفداديين والزراعة كانت حياة المدينة ومورد رزق اهلها، اذ كلما نقب عن البترول وجدوا عيونا مدفونة وآثارا اندثرت بعد عمارها، وكلما قرأت في الكتب التاريخية تجد ان القطيف كان فيها نهر «اختم» ونهر «اساتن» و«سينوس»، واللار.. انهار ذكرت في كتاب «العرب قبل الاسلام» للدكتور علي.. لكن واحة القطيف تبقى غابة من النخيل تتبعها بساتين مثمرة.
ومن خلال جولاتي عرفت ان فيها محطة تجارب زراعية من عام 1962 على مساحة 150 هكتارا، ونجحت تجارب عدة على اصناف مشهورة ومرغوبة من الخضار والفواكه والبقوليات، والقطيف كانت تصدر من مزارعها 750 الف قلة، والواحدة تساوي 32 كيلوغراما اي 24 الف طن، وافضل انواع البلح الخنيزي والغدي، والخلاص، والبكيرة والماجي، والطياري، والشيشي والرزيز، والهلالي.
وكما سمعت من اصحاب المزارع فان زراعة النخيل فقدت الاهتمام، وهذا يعود الى قلة الايدي العاملة، وارتفاع اجورها، حتى اصبحت التمور لا تساوي تكلفة الانتاج وهبطت حركة التصدير
لا يفوتك السمك القطيفيكلنا نعلم أن خليج القطيف متفرع من الخليج العربي وان منه من الاسماك، ما يتجاوز اربعمائة نوع، وان الينابيع البحرية العذبة، وروافد المياه العذبة كالفرات ودجلة وقارون كلها تصب في هذا الخليج مما جعل مياه القطيف تزخر بثروة سمكية هائلة وهذا هو سر جودة السمك القطيفي.
ومن خلال الاحاديث على المائدة القطيفية عرفت ان السمك وجبة رئيسية يعتمد عليها في هذه الواحة خاصة الكبير منه الذي يسمى «القصيب» الذي من انواعه الهامور والسبيطي والشعري والكنعد يصل الى اكثر من اربعين نوعا.
اما الصغير الذي يسمى «حب» ومن انواعه الصافي، كركفان، مجوى، بطان، عنقو، فهو ايضا يزيد عن خمسين نوعا، ناهيك عن الربيان (الجمبري) الذي يوجد بكثرة في شواطئها الطينية.
ومن خلال الجولة يتبين لي ان الحظرة والشبكة والقرقور والحدوق ما زالت مستعملة في الوقت الحاضر، والسفن الخشبية ما زالت راسية وتجوب شواطئ القطيف، وان محصول الصيف يجفف للايام القادمة ويسمى «الحلى» يذخر للشتاء حين يقل الصيد والصياد القطيفي يصدر الى كثير من بلدان المملكة والكويت، والتجار استخدموا الثلاجات التي تؤمن حفظ وبيع الاسماك الطازجة للمستهلكين.
صناعات عريقة.. لماذا إهمالها؟كانت الصناعة من مظاهر الحياة العصرية في واحة القطيف، بيد انه، وللاسف، كما قالوا، اهملت شأنها شأن النشاطات الاخرى، والقرامطة اسروا صناعها فجلبوهم الى بلدانهم، وصناعات عفت عليها الايام التي اعقبت حكمهم من تسلط قبائل البادية وانعدام الامن والاستقرار، ومع هذا كانت حية الى عهد متأخر، فمنها صناعة المداد من الليف، وصناعة الخزف من اعرق الصناعات، وصناعة الخوص تختص بها نساء الفلاحين، والسلال من اعواد القصب، والاقفاص من جريد النخل، واسرة للنوم، وصناعة الجص من الطين البحري، والتسجين من الصناعات المهمة، وهي من جذوع النخل تستخدم لتسقيف المنازل، والنجارة التي كان القطيفي يتفنن بها ويتقنها ومادتها محليا من التوت والسدر، والحدادة، وصناعة النحاس، واما صياغة الذهب فما زالت القطيف تفتخر بها مزدهرة منذ قبل نصف قرن، واندثر منها شيء ما بسبب حضارة البترول، وكل هذه الصناعات قلت وضعفت بسبب نشوء صناعات جديدة متنوعة، وفقا لمتطلبات التطور ومقتضيات العمران، بالاضافة الى مصانع الغرب واليابان والمحلية المتطورة التي غزت حتى بلدان الخليج.
تحياتي لكم